كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: {ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاءُ} للفقراء المهاجرين لكيلا يكون المال دولة للأغنياء من بني الدنيا.
وقيل: والله شديد العقاب للمهاجرين؛ أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم.
ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى: {وَلِذِي القربى واليتامى}.
وقيل: هو عطف على ما مضى، ولم يأت بواو العطف كقولك: هذا المال لزيد لِبَكْر لفلان لفلان.
والمهاجرون هنا: من هاجر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حُبًّا فيه ونُصْرَةً له.
قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والأوطان حبًّا لله ولرسوله، حتى إن الرجل منهم كان يَعْصِب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحَفِيرة في الشتاء ما له دِثار غيرها.
وقال عبد الرحمن بن أبزَى وسعيد ابن جُبَير: كان ناس من المهاجرين لأحدهم العبد والزوجة والدار والناقة يحجّ عليها ويغزو، فنسبهم الله إلى الفقراء وجعل لهم سهمًا في الزكاة.
ومعنى {أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} أي أخرجهم كفار مكة؛ أي أحوَجُوهم إلى الخروج؛ وكانوا مائة رجل.
{يَبْتَغُونَ} يطلبون.
{فَضْلًا مِّنَ الله} أي غنيمة في الدنيا {وَرِضْوَانًا} في الآخرة؛ أي مرضاة ربهم.
{وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} في الجهاد في سبيل الله.
{أولئك هُمُ الصادقون} في فعلهم ذلك.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أُبَيّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله تعالى جعلني له خازنًا وقاسمًا.
ألاَ وإني بادٍ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين؛ أنا وأصحابي. أُخرِجنا من مكة من ديارنا وأموالنا.
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}
فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ} لا خلاف أن الذين تبوَّءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها.
{وَالإْيمَانَ} نصب بفعل غير تبوّأ؛ لأن التبوّء إنما يكون في الأماكن.
و{مِن قَبْلِهِمْ} {مِنْ} صلة تبوّأ والمعنى: والذين تبوّءوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الإيمان وأخلصوه لإن الإيمان ليس بمكان يتبوّأ، كقوله تعالى: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71] أي وادعوا شركاءهم؛ ذكره أبو عليّ والزمخشريّ وغيرهما.
ويكون من باب قوله: عَلَفْتُهَا تِبنًا وماءً باردًا.
ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: تبوّءوا الدار ومواضع الإيمان.
ويجوز حمله على ما دل عليه تبوّأ؛ كأنه قال: لزموا الدار ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما.
ويجوز أن يكون تبوّأ الإيمان على طريق المثل؛ كما تقول: تبوّأ من بني فلان الصميم.
والتبوُّء: التمكن والاستقرأر.
وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم.
الثانية: واختلف أيضًا هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة؛ فتأوّل قوم أنها معطوفة على قوله: {للفقراء الْمُهَاجِرِينَ} وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض.
ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله تعالى يقول: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} إلى قوله: {الفاسقين} فأخبر عن بني النضير وبني قَيْنُقاع.
ثم قال: {وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاءُ} فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يُوجف عليه حين خَلّوه.
وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر.
ثم قال: {مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وهذا كلام غير معطوف على الأول.
وكذا {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم؛ فإنهم سلّموا ذلك الفيء للمهاجرين؛ وكأنه قال: الفيء للفقراء المهاجرين، والانصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء.
وكذا.
{والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} ابتداء كلام؛ والخبر {يَقولونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا}.
وقال إسماعيل ابن إسحاق: إن قوله: {والذين تَبَوَّءُوا الدار} {والذين جَاءُوا} معطوف على ما قبل، وأنهم شركاء في الفيء؛ أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوّءوا الدار.
وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية {إِنَّمَا الصدقات للفقراء} [التوبة: 60] فقال: هذه لهؤلاء.
ثم قرأ {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ}
[الأنفال: 41] فقال: هذه لهؤلاء.
ثم قرأ {وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ} حتى بلغ {للفقراء الْمُهَاجِرِينَ}، {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} {والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بَسَرْوِ حمير نصيبه منها لم يَعْرَق فيها جبينه.
وقيل: إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليّ.
ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت.
فلما غدَوْا عليه قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة (الحشر) وتلا {مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} إلى قوله: {للفقراء الْمُهَاجِرِينَ} فلما بلغ قوله: {أولئك هُمُ الصادقون} قال: ما هي لهؤلاء فقط.
وتلا قوله: {والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك.
والله أعلم.
الثالثة: روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فُتحت قريةٌ إلا قسمتها كما قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خَيبر.
وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة: أن عمر أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم؛ لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحِشْوة والذَّراري، وأن الزبير وبلالًا وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم؛ فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك؛ فقيل: إنه استطاب أنفس أهل الجيش؛ فمن رضي له بترك حَظه بغير ثمن ليُبقيه للمسلمين قلة.
ومن أبى أعطاه ثمن حظه.
فمن قال: إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قسم خَيبر، لأن اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها.
وقيل: إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش.
وقيل: إنه تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {للفقراء الْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} على ما تقدم.
والله أعلم.
الرابعة: واختلف العلماء في قسمة العقار؛ فقال مالك: للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين.
وقال أبو حنيفة الإمام مخير بين أن يقسمها أو يجعلها وقفًا لمصالح المسلمين وقال الشافعيّ: ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال.
فمن طاب نفسًا عن حقه للإمام أن يجعله وقْفًا عليهم فله.
ومن لم تَطِب نفسُه فهو أحق بماله.
وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم.
قلت: وعلى هذا يكون قوله: {والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} مقطوعًا مما قبله، وأنهم نُدبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم.
الخامسة: قال ابن وهب: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إن المدينة تُبُوِّئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القُرى افتتِحت بالسيف؛ ثم قرأ {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} الآية.
وقد مضى الكلام في هذا، وفي فضل الصلاة في المسجدين: المسجد الحرام ومسجد المدينة؛ فلا معنى للإعادة.
السادسة: قوله تعالى: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ} يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره؛ كذلك قال الناس.
وفيه تقدير حذف مضافين؛ المعنى مَسَّ حاجةٍ من فَقد ما أوتوا.
وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة.
وكان المهاجرون في دور الأنصار: فلما غَنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم.
ثم قال: «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم».
فقال سعد بن عُبادة وسعد بن معاذ: بل نقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا.
ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار» وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئًا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم.
ويحتمل أن يريد به {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ} إذا كان قليلًا (بل) يقنعون به ويرضون عنه.
وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دُنْيَا، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم بحكم الدنيا.
وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «سترون بعدي أَثَرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»
السابعة: قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في الترمذي عن أبي هريرة: أن رجلًا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: نَوِّمي الصِّبية وأطفئي السراج وقَرّبي للضيف ما عندك؛ فنزلت هذه الآية {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} قال: هذا حديث حسن صحيح.
خرجه مسلم أيضًا.
وخرّج عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء.